الجمعة، 17 يوليو 2020

(حب في الظلام ) قصة للشاعرة المبدعة إيمان كيالي - سورية

قصة طويلة
حب في الظلام

كانت السماء متلبدة بالغيوم، حيث كان راقدا في فراشه يقرأ، فأحس بومضة قوية داخل راسه، وفجأة اختفى الكتاب الذي كان يمسك به، واختفت الغرفة كلها عن ناظريه، فوجد نفسه في النهاية يعيش في قفص من الظلام الذي لف كل شيء حوله.
كان يعرف ان هذا اليوم آت لا محالة، لأن الاطباء حذروه من احتمال فقد عينه الأخرى، عندما بدأ هذا المرض اللعين يزحف إليه، ولكنه لم يبال كثيرا بتحذيرهم، كان يقول لنفسه : لو انني تجاهلت هذا التحذير ونسيت مرضي، ربما استطعت ان اتغلب على مخاوفي، ثم من يدري، الا يمكن أن يخطئ الطب ابدا...
كان يحب الحياة، ويريد ان ينعم بها مهما قست عليه.
لكن حدث ما توقعه الأطباء، وتمكن المرض من عينه الثانية، وهنا بدأت رحلته الطويلة كئيبة مظلمة، شعر بها كأنها دهر، ورغم ذلك ما زال يتعلق بالأمل في أن يكون ما حدث له ظلام مؤقت، لا يلبث ان يزول، ويعود النور إليه، إلى أن قضى الطبيب على أمله الأخير الذي راح يتشبث به في يأس!!
وجد نفسه يغوص بجسمه وكيانه في هوة سحيقة يلفها البؤس والألم.
كان فخورا دائما بروحه الاستقلالية التي نعم بها طوال حياته...
واحس الما يعصر قلبه عصرا، وهو يرى حياته كلها تنهار!!
فقد وظيفته، حيث كان يعمل محاسبا ماليا في إحدى الشركات الكبرى... ليس له في هذه الدنيا انسان واحد يتكئ عليه، عاش حياته اعزبا حتى بلغ الستين من عمره... حتى أقاربه لم يعد يعرف عنهم شيئا... وأصبح وحيدا في هذا الظلام الذي يحتويه!!
انقضت اسابيع طويلة، احس خلالها ان عقارب الزمن قد توقفت، ولم تعد تتحرك، كما كانت تفعل قبل أن تلفه الدنيا بهذه السحابة السوداء...
كان يشعر بأيدي الاطباء والاصدقاء تلمسه، وتربت على كتفه مواسية مشجعة.. يسمع أصواتهم تصل إلى أذنيه، كأنها اتية من بعيد، من عالم آخر لا تربطه به صلة... عالم النور الذي افتقده... فلم يجد شيئا يفعله إزاء ذا الذي يحدث من حوله، إلا أنه يجلس صامتا هادئا لا يبدي حراكا لساعات طويلة من النهار او الليل، بعد أن استويا عنده، دون أن يغمض جفنه.
وعند مغادرة المشفى، انتابه خوف شديد يملأ نفسه ويسيطر على مشاعره، كيف سيترك هذا المكان الذي ألفه، والى أين سيذهب؟!
معاشه البسيط لا يكفي هذه الحياة، ولا يستطيع أن يعتمد على أحد، فقال في نفسه : ( هل سأجد من اصدقائي من يمد لي يد العون في وحدتي وألمي، ماذا عساني افعل. )؟!
نصحه احد اصدقائه ان ينشر اعلانا في إحدى الصحف يذكر فيه انه يبحث عن سكرتيرة تعمل نصف الوقت، لرجل ضرير يخطو بسرعة نحو الشيخوخة، والاجر لن يكون مغريا.
فعمل بذلك وكانت المفاجأة، عندما تقدمت اكثر من ثلاثين فتاة تطلب الوظيفة....
جلس وحده في غرفة مكتبه، وراح يتبادل بضع كلمات مع عدد من الفتيات اللواتي جئن يعرضن خدماتهن عليه، ولم يكد يفعل حتى اكتشف انه وجدها!!
اتفقا على الأجر ومواعيد العمل، سألته: ( لماذا اخترتني انا بالذات، وماذا وجدت بي ما لم تجده في الاخريات )؟
رد عليها : نعومة صوتك ورقتك... فقد شعرت من خلال حديثك انك انسانة طيبة القلب، ما أوحى لي بأنك ستساعديني بلطف ).
صدق حدسه، ولكن سرعان ما تحول هذا العطف إلى حب، رفض ان يصدق ذلك في بداية الأمر!! ( هل يمكن لفتاة في الثلاثين ان تحب شيخا محطما في مثل سني )، قال في نفسه.
مرت الأيام وهي تحاول اقناعه بحبها له، ولكنها فشلت في إزالة الشكوك من راسه، وتقنعه بحبها الصادق النقي، وأنها تريد مشاركته في حياته بكل ما فيها من مرارة وألم.
تزوجها، وطلق الوحدة، مااكثر اللحظات التي كان يشعر فيها بأنه ظلم هذه الفتاة المسكينة، هيتسير َعه إلى الجحيم المظلم الذي يعيش فيه.
حاولت أن تقنعه بأن يكتب قصة حياته، ولكن كان يخشى ان يلازمه الفشل، لظنه ان الفراغ المظلم في عينيه ينعكس على عقله فيشله، فكانت تحاول أن تخفف عنه ما كان يشعر به عندما يجد نفسه عاجزا عن أن يفعل شيئا، وكانت محاولاتها تنجح احيانا، وتفشل في كثير من الأحيان، فتشتد ثورته على نفسه، وعلى زوجته، التي لا تلبث ان تتركه وحده حين يهدأ، ثم تعود لتجده نادما على ما فعل.
وفي أحد الأيام سمعها تقول، بعد أن اقتربت منه، وامسكت براسه بين يديها تداعبه : ( ساخرج في نزهة قصيرة مع صديقتي، وقد تركت لك على المنضدة الصغيرة بجوارك، قلما وورقة، فربما أردت أن تسجل شيئا في وحدتك)، فودعته وذهبت.
عاد يغوص في مقعده يفكر، ويبحث بعين خياله  في الظلام الكئيب من حوله!
مضت دقائق، تحسس بعدها م ضع القلم والورقة، فشعر برجفة تسري في اصابعه... ترى ماذا هو فاعل به؟
مد يده الأخرى وامسك بالورق، أراد أن يعبر عما يملأ قلبه من حب لهذه الفتاة التي ضحت بحياتها ومستقبلها لأجله، كيف سيصب مشاعره على الورق، وهو ليس بشاعر ولا كاتب...
عاد إلى القلم و راح يحركه فوق الورق، وفجأة أحس بشيئ غريب... ان أطراف اصابعه تطوف بالقلم في سهولة ويسر، وهي تكتب كلمات لا تعرف من أين بدات، والى أين ستنتهي... 
شعر بحيوية غريبة تدب في اصابعه التي لم تعرف سوى الأرقام خلال عمله كمحاسب... 
غاص في مقعده من جديد، رجع في ذاكرته إلى الوراء.. إلى الماضي البعيد... وراح يفرغ ما علق بذاكرته، ولكن ثمة شعور غريب سيطر عليه في تلك اللحظة التي انهمك فيها بكل حواسه في تصوير ما دار في فكره.... 
وعادت زوجته، امسك الورق وسالها : ماذا ترين هنا؟ 
سادت فترة الصمت، قبل أن تسأله : من الذي كتب هذا؟ 
أجاب : انا يا عزيزتي، ماذا وجدت فيها؟ 
أجابت : إنها لوحة رائعة، رسمها فنان يرى الجمال ويتذوقه بكلمات كالفرشاة والألوان. 
مد يده بسرعة، يبحث عن ورقة أخرى جديدة، وراح يكتب ويكتب... 
وزوجته جالسة أمامه ترقب في صمت، شعر وهو يكتب، ان الظلام الذي حبسه منذ أن فقد نور عينيه، لم يعد ظلاما فارغا اجوفا، بل استطاع أن يرى مرة أخرى، ولكن بعقله بدلا من عينه. 
ومنذ تلك اللحظة شعر ان الحياة تدب في اوصاله... ومضى في محاولاته يوما بعد يوم... ولم يترك القلم من يده، والرغبة تدفعه لاكتشاف القدرة العجيبة التي ظلت كامنة في داخله، دون أن يوفر لها فرصة الانطلاق... اكتشف نفسه اخيرا... مما دفعه للتحدي والاستمرار، وهذا بدا يشعر بأنه حي وقلبه شباب، فاحب الحياة الجديدة رغم الظلام. 
وبدا يطور اسلوبه في الكتابة بثقة، وكانت زوجته تقف إلى جانبه، تقدم له الأقلام والأوراق وما يحتاجه... 
كم كانت حالة فرح مذهلة يوم ان نشرت له زوجته مجموعته القصصية الأولى... ولاقت نجاحا في الوسط الأدبي والثقافي... 
لا تقل عن فرحته حين أنجبت له ولده الأول... وتابع حياته التي امتلأت سعادة، اضاءت ظلامها حين فازت اخر َمجموعاته بجائزة أدبية قيمة... أزالت كل آثار الظلام من عينيه... 

سوريا، حلب
إيمان كيالي
14/7/2020

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق